مَا تَبَقَّى لكم



1966



مَا تَبَقَّى لكم


الإهداء
إلى " خالد "..العائد الأول الذي ما يزال يسير
غ.ك.



توضيح
الأبطال الخمسة في هذه الرواية، حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء لا يتحركون في خطوط متوازية أو متعاكسة، كما سيبدو للوهلة الأولى، ولكن في خطوط متقاطعة تلتحم أحياناً إلى حد تبدو وكأنها تكون في مجموعها خطين فحسب. وهذا الالتحام يشمل أيضاً الزمان والمكان بحيث لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحياناً بين الأزمنة والأمكنة في وقت واحد.
إن الصعوبة الكامنة في ملاحقة عالم مختلط بهذا الشكل، هي صعوبة معترف بها، ولكن لا مناص منها أيضاً إذا كان لا بد أن تقول الرواية ما اعتزمت قوله دفعة واحدة. ولذلك السبب لجأت إلى اقتراح مطروق لتعيين لحظات التقاطع والتمازج والانتقال، والتي تحدث عادة دون تمهيد، وذلك عن طريق تغيير حجم الحروف عند النقطة المعنية.
انه شيء لابد من الاعتراف به. إن تغيير حجم الحروف ذاك يعرقل جزءاً هاماً من عملية الانتقال التي كان لابد أن تحدث دون وعي ودون إشارة، وستبدو كأنها ترتيب مقصود لعالم غير مرتب في الحقيقة، ولكن تجارب سابقة من هذا النوع أثبتت أن مثل هذا العمل هو شيء لا مفر منه.
غ.ك.

صار بوسعه الآن أن ينظر مباشرة إلى قرص الشمس معلقاً على سطح الأفق، يذوب كشعلة أرجوانية تغطس في الماء، وفي اللحظة التالية غاصت الشمس كلها، وبدأت الخطوط المتوهجة التي خلفتها معلقة على حافة السماء، تتراجع أمام جدار أشهب صعد لامعاً بادئ الأمر ثم تحول إلى مجرد طلاء ابيض.
وفجأة جاءت الصحراء.
رآها الآن لأول مرة مخلوقاً يتنفس على امتداد البصر، غامضاً ومريعاً وأليفاً في وقت واحد، يتقلب في تموج الضوء الذي أخذ يرمد منسحباً خطوة خطوة أمام نزول السماء السوداء من فوق.
واسعةً وغامضة، ولكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها. لم تكن صامتة تماماً، وقد أحس بها جسداً هائلاً يتنفس صوت مسموع. وفجأة انتابه الدوار وهو يغوّص فيها:
أطبقت السماء فوقه بلا ضجيج، وتراجعت وراءه المدينة حتى استحالت إلى نقطة سوداء في نهاية الأفق.
وأمامه، على مدّ البصر، تنفس جسدُ الصحراء فأحس بدنه يعلو، ويهبط فوق صدرها. وفي قلب الجدار الأسود الذي انتصب وراء الأفق أخذت المصاريع تنفتح واحداً وراء الآخر، فتنبثق وراءها نجومٌ ذات لمعان قاس.
عندها فقط عرف أنه لن يعود. وبعيداً وراءه غابت غزة في ليلها العادي، غابت مدرسته بادئ الأمر ثم غاب بيته، وانطوى الشاطئُ الفضيُّ متراجعاً إلى الأمام تاركاً لخطواته أن تُصدر فحيحاً مخنوقاً، مستشعراً ذلك الإحساس الذي كان يملؤه دائماً حين كان يلقي بنفسه في أحضان الموج: قوياً وضخماً ويتدفق بصلابة لا تصدق ولكنه مملوءٌ، أيضاً، بالعجز المهبض الكامل.
وأخذ يغوّص في الليل، مثل كرة من خيوط الصوف مربوط أولها إلى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاماً لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول إلى كرة، وهو الآن يفكها تاركاً نفسه يتدحرج في الليل: " كرر ورائي: زوجتك أختي مريم-زوجتك أختي مريم-على صداق قدره-على صداق قدره-عشر جنيهات-عشر جنيهات-كله مؤجل-كله مؤجل".
ثم أخذت العيون تأكل ظهره وهو جالس أمام الشيخ. كل الذين كانوا هناك يعرفون أنه لم يزوجها وإنها حامل، وأن الكلب الذي سيصبح صهره يجلس إلى جانبه يضحك في أعماقه بصوت مسموع.
كله مؤجل، طبعاً. فالمعجل هو جنين يخبط في رحمها. وخارج الغرفة أمسكها من ذراعيها: " لقد قررت أن أترك غزة "، وابتسمت فبدا فمها الملطخ بالحمرة جرحاً دامياً انفتح فجأة تحت أنفها " أين ستذهب؟ " قالتها وتركت فمها مفتوحاً كأنها تريد أن تقول له انه لا يستطيع-" سأذهب إلى الأردن، عن طريق الصحراء"-تهرب مني؟ وهز رأسه: " لقد كنت كل شيء، وأنت ملطخة وأنا مخدوع..لو كانت أمك هنا".
وغداً ستقول لابن الحرام الذي ستضعه في فراشها: " لو كانت جدتك هنا.." ثم يكبر ويتزوج وينجب ويقول لابنه: " لو كانت جدتك الكبيرة هنا " ..لو..لو..منذ ستة عشر عاماً، وهو يقول لها: لو كانت أمك هنا، إذا تشاجرا قال لها: لو كانت أمك هنا، إذا ضحكا، إذا انتابها الألم، إذا عجزت عن الطبخ، إذا طردوه من عمله، إذا وجد عملاً: لو كانت أمك هنا، لو كانت أمك هنا.
وأمه لم تكن هناك أبداً، على بعد ساعات من المشي، في الأردن، لم يستطع أحد أن يمشيها في ستة عشر عاماً، وقد عقد عزمه على أن يفعل ذلك حين كان يقول، دون أن يعي: " زوجتك أختي مريم...".
كان يلتهب، مبتلعاً مرارة حادة حتى معدته، إلاَّ أنها رجعت خطوتين وهي لما تزل تبتسم تلك الابتسامة الدامية، ومن ورائها نبح الكلب، فقالت له: " صهرك حامد يريد أن يترك غزة " – ولكنه لم ينظر إليه وأجابها كأنه لا يعرفه، كأنه لا يقف هناك: " حامد يقول أشياء كثيرة، اتركيه ".
وفي اللحظة ذاتها تساءل: " ترى أين حدث ذلك؟ " ونظر إلى بطنها المكور برفق تحت الثوب وفكَّر: "ذات يوم ترك مدرسته بلا شك ، أخذ إذناً من المدير، ربما قال له إن الصداع يحطم رأسه. دائماً يقول: " الصداع يحطم رأسي "، وجاء إلى البيت أثناء غيابه عنه، وقد فتحت له ودخل. فكَّ أزرار قميصها فيما تظاهرت بأنها لا تستشعر شيئاً. ولكن متى؟".
واستدارت دون أن تقول شيئاً، وأخذت ترد على الضيوف دون أن تعي: "عقبالك" وطارت كلمة عالية: مبروك-مبروك، وامتدت إليه أكفٌ باردة فصافحها وهو ينظر إليها، طوال شهرين علك وهماً كان يلجأ إليه كلما اجتاحته حُمَّى الغيظ: يحمل سكيناً طويلة ويندفع إلى سريرها يكشف عن وجهها فتفتح محجريها تاركة الجنون يطلّ منهما، يمسكها من شعرها ويقول لها شيئاً، ينظر إليها فقط فتفهم كل شيء، ثم يطعنها طعنة واحدة في القلب تماماً، ويندفع إلى خارج الدار يبحث عنه. صهره. زوجتك أختي مريم على صداق قدره عشر جنيهات كله مؤجل. صهره.
لقد تركته يلوثها، أعطته نفسها في ربع ساعة مسروقة منه، وحين زرع الطفل في رحمها كان قد أمسك به من عنقة:
"
أنت حر، زوجنيها أو لا تفعل، فلست أنا الذي يخسر ".
-
ولكن لِمَ لمْ تقل أنك تريدها؟ هز رأسه فيما كان يبتسم ابتسامة تاجر شريف: " هذا الذي حصل ". وأراد أن يقوم فيضربه، إلا أنه واصل الابتسام: " أنت لا تريد ضربي، أليس كذلك؟ سيقولون أنك ضربت الرجل الذي.."
كفى!!!

كان ضئيلا بشعا كالقرد , إسمه زكريا وكان بوسعه ان يعتصره بين قبضتيه الكبيرتين, وأن يخنقه بمجرد الاطباق حول خصره, ولكنه كان عاجزاً وكانت أخته مريم تتسمع وراء الباب والجنين يضرب في أحشائها, وحين غادر آخر الضيوف أغلق سهره الباب, وعاد وكأن البيت بيته : خلع حذاءه وتمد على المقعد, فبدا مجرد لطخة مصادفة في مكان غير مناسب.
ثم تنهد وشبك كفيه وراء رأسه, وأخد ينظر بارتياح مقيت الي أشياء الغرفة . وأخيراً استقر بصره عليها فأخذ يتحدث فاتحاً فمه على وسعه : "إذن يريد أن يذهب , يريد أن يعبر الصحراء.... لم يقل لي مبروك بعد , فأنا الآن صهره , ثم اني أكبر منه ".
ثم نهض كأن المقعد قذفه وأخذ يتجول في الغرفه ناظراً إلي الأرض: "انه يهددنا يا مريم , فلماذا لا تقولي له اننا لا نكترث به؟" . لا انها بقيت صامته متكئة على الجدار كزوجة قديمة تتزوج مره أخري , توقف ونظر إليها من جديد متخذاً وضع خطيب مؤثر :"إن الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليله واحدة" وأعطاه ظهره بحيث واجه مريم: " عليه أولا أن يجتاز حدودنا ثم عليه أن يجتاز حدودهم , ثم حدودهم , ثم حدود الأردن , وبين هذه الميتات الأربع توجد مئات من الميتات الأخرى في الصحراء.... ألست متأكدة من أنه يمزح مزحاً سخيفاً.؟ "
ولكنها لم تجيب , وبدا جو الغرفة خانقاً ومشدوداً. وحول ياقته انبثق خطٌ من العرق وسمع نفسه يلهث. كان يعرف تماماً انه سيبدو سخيفا إذا تكلم , ولكنه لم يستطع أن لا يفعل , فقام عن كرسيه واتجه إلى الباب لا تردد , وفي اللحظة المناسبة استدار : " سأغادر غداً مساء ".

وأراد وهو يهبط السلم , أن يستمع إلي أي نداء . أن يلحقه صوت مريم : " عد يا حامد! " أن تصيح , أن تقول شيئا . ولكنه لم يسمع إلا أصوات خطواته وهي تخفق على السلم . وقبل أن يصل الرصيف صفُق البابُ وراءه , دون أية كلمة وساد الصمت .

سقط الظلام تماماً الآن وسقطت معه ريحٌ باردة صَفَرتٌ فوق صدر الصحراء , كأنها لهاث مخلوق ميت , ولم يعد يدري ما إذا كان خائفاً .فثمه قلب واحد كان ينبض ملء السماء في ذلك الجسد المترامي على حافة الأفق . توقف هنيهة وحدَق إلي السماء خيمةً سوداء مثقبة , وبدا له المدي غامضاً مثل هاوية , رفع ياقة معطفه وغرس كفيه في جيبيه الكبيرين . وفجأة ذاب الخوفُ وسقط , ولم يعد ثمه إلا هو والمخلوق الموجود معه , وفيه يتنفس بصفير مسموع , ويسبح بجلال في بحر من العتمة المرصعة . ومن بعيد ترامي إليه الهدير , فبدا له شيئا متوقعاً تماماً , ليش بمقدور أي شئ في هذا المدى المبسوط أن يكون مفاجئاً , ليس بوسع أي شيء أن يكون إلا إلا صغيراً و واضحاً وأليفاً في هذا العالم الواسع المفتوح على وسعه أمام كل شيء , لقد بدا الهدير في البدء قادماً من الجهات الأربع ثم ما لبث أن اتضح . ومن بعيد مسح خطٌ مستقيم من الضوء حافةَ الأفق مثل عصا بيضاء تدور على طرفها نصف دورة , وفي اللحظة التالية أطلت من بعيد عينان مضيئتان أخذتا تهتزان وهما تنثران حولهما ضوءاً دائرياً . ودون أن ينتابه خوف أو تردد استلقي على الأرض وأحس بها تحته ترتعش كعذراء , فيما أخذ شريط الضوء يمسح ثنيات الرمل بنعومة وصمت , عندها فقط شد نفسه إلي التراب وأحسه دافئاً ناعماً , وفجأة تعالى الهدير وصارت السيارة أمامه تماماً , فغرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته تسيل الي جسده , وبدا له أنها تنفست في وجهه فلفح لهاثُها المستثاُر وجنتيه , وشد إليها فمه وأنفه , فاشتد الوجيب الغامض فيما استدارت السياره فجأة , فالتمع الضوء الأحمر في مؤخرتها وأخذ يذوب في الليل .
زوجتك أختي مريم --أراح وجنته فوق صدرها الدافئ مرة أخرى فيما أخذت نسمات بارده تغسله , تلاشي الآن الضوء الأحمر تماماً , كأن يداً أطفأته عنوةٌ _ لو كانت أمي هنا ....لو كانت أمي هنا _ استدار ومرر شفتيه فوق التراب الدافي : " ليس بمقدوري أن أكرهك , ولكن هل سأحبك..؟ أنت تبتلعين عشرة رجال من أمثالي في ليله واحدة _أنني أختار حبك , أنني مجبر على اختيار حبك , ليس ثمة من تبقي لي غيرك...".

ليس ثمة من تبقي لي غيرك...وأنت تبدوا بعيداً , رغم أنك في فراشي... تدق. تدق. تدق. داخل النعش الخشبي المعلق امام السرير _ لقد اشتراها هوا وحملها من السوق في تموز ما , وحين وصل إلى الباب لم يستطع تناول المفتاح من جيبه , كان يحملها بذراعيه وكانت , كما قال لي , ثقيلة جداً . فوقف امام الباب محتاراً وطفق يفكر , ثم ما لبث ان نسي نفسه هناك وظل واقفاً حتي أتيت وحين نظر إلي كان يتصبب عرقاً ولكنه لم يكن غاضباً , وقال لي : لماذا تأخرت .؟
_
لم اتأخر ... ما هذا؟...
ونظر إليها بين ذراعيه: " ساعة حائط , ولكنها تشبه نعشاً صغيراً , أليس كذلك.؟" و دخلنا فاتجه مباشرة الى الغرفة التي كنا ننام فيها , كان المسمار الكبير مثبتاً مباشرة أمام سريره فعلقها وأنا أسند له الكرسي . ثم نزل وابتعد وأحذ ينظر إليها برضى , إلا انها لم تتحرك . فكر قليلاً فقلت له : " ربما تحتاج إلى تعبئة " فرفع رأسه نافياً وقال : " أعتقد انها ليست مستقيمة . إن ساعة الحائط ذات الرقاص لا تشتغل إذا كانت مائلة " , وصعد إلى الكرسي مرة أخرى وأخذ يحركها ببطء وكأنه يصوبها تصويباً . وفي اللحظة التالية بدأت تدق , ولاحظنا معا أن دقاتها تشبه صوت عكاز مفرد. وحين أعاد الكرسي إلى مكانه سألته السؤال الذي كان يتوقعه : " بكم أشتريتها ؟" وأجابني الجواب الذي لم أكن اتوقعه : " لم أشتهرا سرقتها.." ومنذ ذلك اليوم وهي معلقة هناك , تدق خطواتها الباردة كصوت عكاز مفرد بلا توقف . تدق ..تدق....تدق...يا زكريا تدق... والآن ليس لي غيرك , وغيرها وقد تركناه يغادرنا كلنا دون كلمة واحدة , وحين كنت أسمع أصوات خطواته تخفق , مترددة , فوق السلم حسبت أنه سيعود وكنت ممزقه بينه , هو الماضي كله , وبينك , أنت ما تبقي لي من المستقبل , ولكنني لم أتحرك وأنت لم تتحرك .. وهو لم يعد .

ثم خطوت وصفقت الباب فأغلقت كل شيء. ومضيت إلى الغرفة الأخرى , وحين لحقتُ بك أكدت لي أنه سيعود وأنه أصغر من أن يقتحم الصحراء وحده , وأنه سيكتشف بنفسه تفاهة الموضوع الذي سمح له أن يتغلب علي عقله .

لو كانت أمي هنا لكان لجأ إليها , للجأت إليها أنا , لقلنا كلمة واحدة عنه . لما تركنا لدفي الباب الخشبيتين أن تمحواه محواً من هذا البيت بمجرد أنغلاقها.
مع صبي الخباز تسلمت منه أول الكلمات وآخرها " سأغادر غدا مع غروب شمس اليوم وسأكتب لك من الأردن _ أذا وصلت" ثم جاء التوقيع الصغير "حامد" مكتوباً بهدوء تماماً كما كان يكتبه على قفا علبى تبغه حين كان يغادر البيت لسبب من الأسباب : " ساعود بسرعه _ حامد " ثم يترك العلبة متكئة فوق الراديو . كان يعرف انني أتجه إلي الراديو أول كما أصل إلي البيت . ولكننا خدعناه . لنعترف بذلك أنه بعيدا الآن .. يسير منذ ثلات ساعات على الأقل, وخطواته واحده واحده أحصيها مع الدقات المعدنية المخنوقة ي الجدار , أمامي . دقات النعش . دقات محشودة بالحياة يقرعها بلا تردد فوق صدري حيث لا صدي ثمه الأ كان الرعب وهو يخطو فيبدوا أمام الجدارالأسود المرتفع وراءه مباشرا حيواناُ ضئيلا يعقد العزم على رحلة دفء لا نهاية لها , مشحونة بالغيظ والأسي والاختناق وربما الموت , أغنية الليل الوحيدة في جسدي . منذ اللحظة التي أحسست فيها بخطوته الأولى على الحافة عرفت أنه رجل غريب. وحين رأيته تأكدت من ذلك كان وحيداً تمام بلا سلاح , وربما بلا أمل أيضاً , ورغم ذلك فعند لحظة الرعب الأولى , قال أنه يطلب حبي لأنه ليس بأستطاعته أن يكرهني

ليس باستطاعتك أن تكرهني يا زكريا , ليس باستطاعتك أن تفعل ذلك , فأنت كل ما تبقى لى , أما هو فقد مضي وأمحى من هذه الغرفه , ولم يبقَ منه إلا أصوات خطوات معدنية تدق على الجدار بلا نهاية مثل عكاز فقد اتجاهة . ولم يتبق لي ما أفعله إلا عدها . وأنت مستغرق في النوم علي بعد شبر واحد مني . بعيد ...كالموت.

أنت لا تعرفه رغم أنك عملت معه فتره صغيرة في الخيمة التى كنت تسميها مدرسة المعسكر , وهو لم يعرفك أيضاً , وأنا فقط التى عرفتكما_ كأن رأيه بك دائما موجزاًً و واحداً قاله لى بعد أول مرة قابلناك فيها معاً مصادفة بالطريق : ما اسمه ؟ زكريا .. من اين تعرفه .؟ زميلي في مدرسة المعسكر . صديقك ؟ كلا .. أنه نتن.
وكان هذا كل شيء : " انه نتن !" , لم يغير هذا الاضطلاح إطلاقا , وحتي حين عرف قال كلمة واحدة : "انه نتن !" ومضي. توقف العكاز فجأة , هنيهة واحدة , ثم دقت الساعه تسع دقات . مشى ثلاثة ساعات اذن . ولكنه لم يعرف إطلاقاً أنك استوقفتني بعد ثلاثة أيام في الطريق وقلت لي : "سلمي على حامد" , وأنا لم أوصل له سلامك , لاننى عرفت أنك استوقفتني لسبب آخر...__ لقد وقف فجأة نظر إلى السماء أولاً ثم الى ساعته , وعرفت أنه يفكر مثلهم كلهم : إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر وكنت مبسوطة أمامه, مستسلمة لشبابه بلا تردد ولخطواته وهي تدق في لحمي .ولكنه مثلهم كلهم , خاف من الأنبساط الذي لا نهاية له , حيث لا تلة ولا علامة ولا طريق , وظل واقفاً ينظر إلى سواد الأرض المتصل بسواد السماء في نقطة تقطع مباشرة أمام قدميه . ثم سار فجأة ,شاباً كما كان دائما مملوءاً بالغيظ والاختناق والحزن . ولم أستطع أن اقول له بأنه انحرف شبراً صغيراً إلى الجنوب سيصل به في الصباح الى قلب الصحراء والشمس_...
ولم أعرف قط لماذا مررت ذلك المساء إلى من أمام المقهى الذي تجلس فيه , كأنما بالمصادفة . ولماذا أبطأت حتي يسرت لك أن تراني وتلحق بي , ولم أعرف قط أن تلك اللحظة الصغيرة ستصل بي بعد أربعة أشهر الى سريرك أمام ذلك النعش المعلق الذي ظل يدق..يدق..الى سريره ,هذا سريره هو لقد نمنا معاً فى هذه الغرفه حين كانت خالتنا تنام في الغرفة الاخرى قبل ان تموت . وكان سريري يمتد تحت النافذة , وسريره في الجانب الآخر مقابل الساعة . ثم نقلت سريري إلى الغرفة الخارجية بعد أن ماتت خالتنا وبقي هوا هنا , مقابل الساعة , على هذا السرير ,يستمع أغلب الظن الى دقاتها المعدنية المبتورة تخطو فوق الجدار حول نفسها دون لخظة توقف واحدة ....

وحين ماتت خالتي ماتت على سريره... ويخيل إلى الآن أنه قصد الى ذلك قصداً , فحين كانت طريحة مرضها الأخير قرر فجأة أن ينقلها من الغرفة الأخرى إلى سريره , ولم يقل قط لماذا , وقد ماتت هناك بعد أن دقت الساعة دقة واحدة ,في الليل. أحسست بذلك تماماً , فقد بدت تلك الدقة الوحيدة , المبتورة والقاسية بدت لنا جميعاً خطوة أخيرة . وقد نظرت إلي الساعة ثم إلى فيما مضت تتحدث إليه " سلم على أختي , الله كريم ذات يوم ستذهبان إليها أو تأتي إليكما " ونظرتٌ إلى الساعة وقد بدأت تدق من جديد كأنها لم تدق أبداً , وقالت وهي لم تزل تنظر إليها "" دير بالك على الصبية ""عندها خرجت من الغرفة .الصبية ..الصبية..الصبية..كانت دائماً في ثيابي , في جثي المتوهجة , في فراشي . غريبة كأنها الفراق..الصبية , لم أعرف انها خرجت ولكن خالتي عرفت فأشارت نحوها وراء الاب باصبع واهن وقالت : "" زوجها يا حامد زوجها , انها صبية وأنا اعرف "". ولكن الملعونة لم تنتظر . جائتني بجنين يضرب في أحشائه .وأبوه ؟ ذلك النتن الكلب زكريا , لقد خدعاني معا ثم طرداني وأنا غارق في عارها _ زوجتك أختي مريم , زوجتك أختي مريم ..كله مؤجل..كله مؤجل . جاءت وقالت : سأعترف لك بشيء خطير , فخفق قلبي وقلت لها : " اجلسي اذن " . فجلست وطوت راحتيها فوق حضنها فسقط بصري فوقهما وعرفت فوراً . اجتاحني الرعب فأخد جبيني ينضح عرقاً تساقط فوق عيني , وخيل إلي أن صراخها ينبعث من تحت راحتيها المطويتين فوق حضنها . صراخ مجروح ينبعث من بين فخديها حيث طوت راحتيها كأنها تخفي شيئاً . وفجأة بدأت تبكي , فقلت بصوت واهن :"" يا إلهي ! عرفت ! "" فأمسكت كفي بكلتي يديها , وأخذت تمرغها فوق شفتيها ودموعها وسمعتها تهذي: " ولكننا سنتزوج يا حامد , سنتزوج " . وسألت بلا وعي : "" من هو..؟ زكريا! زكريا! ؟ زكريا!! ؟ أنتظري لحظة زكريا ؟ يا إلهي ! كان الجدار عالياً وراء المعسكر . وقد أقتادونا جميعا الى هناك , وفيما كنا نتزاحم على الممر الضيق المؤدي إلى ذلك البناء المهدم كانوا يزحروننا تاره بالعبرية وتاره بالعربية المكسرة , ثم أوقفونا صفاً واحداً وانصرفوا يدرسوننا بإمعان واضعين فوهات رشاشاتهم تحت آباطهم , موسعين ما بين أقدامهم , وفجأة أخذت المساء تندف رذاذها ببطء وكآبة , فيما غاص المعسكر وراءنا بصمت أسود. وعند الظهيرة تقدم الضابط ونادي سالم, الأ ان الصف بقي مستقيماً وصامتاً ومبللاً , وحين نادي مرة أخرى بصوته الرفيع العالي نقل رجل ما خطواته محتاراً فخشخش الحصي هنيهة ثم خيم صمت جديد.وبدا الضابط وقد نفذ صبره كتلة من الغضب المشلول . و وراءه مضغت مغاليق البنادق أشداقها بصوتها الفولاذي المكتوب كأنها الموسيقي التي ترافق باتقان لا حد له مسرحية جيدة الأداء . وانسحب الضابط ببطء موسعاً الطريق امام الفوهات الدقيقة :" إذا كنتم تصرون على أخفاء هذا الفتي إلي ذلك الحد فلتذهبوا جميعاً إلي الجحيم نحن نعرف انه واقف بينكم"" وخشخش الحصي مرة أخري فيما أطبقت حفني فأنزاح العالم من أمامي وأضحي لا يعي شيئا.
وفي اللحظة التالية تماماً أندفع زكريا خارج الصف المستقيم وقذف نفسه راكعاً وكفاه مضمومتان إلي صدره وأخذ يصيح..فتراجعت الفوهات الفولاذية مترددة بطيئة , ثم تقدم الظابط فركله وتولي جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين :""" أنا أدلكم على سالم"""

وقبل أن يفعل تقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة . وقد رأيناه يغسلنا بنظرة الأمتنان التي لا تنسي فيما كانوا يقتادونه أمامهم . إلا أنه عاد فالتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت : باردة وقاسية وتعلن ولادة شبح . وغاب وراء الجدار هنيهة . ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما اخذنا ننظر الي زكريا وأكننا جميعا متفقون على ذلك . زكريا.. زكريا.. كنت جثة تتوهج داخل ثيابي. وكان الوهج يبقي فيها حتي حين كنت أخلعها وأعلقها على الجدار . وكأنت الساعة تشيع نفسها كل صباح في نعشها الصغير أمام عيني وأنا أبدل ثيابي , فينبثق فجأة ثدياي الأهوجان كأنهما كانا مطويين في حقيبة حامد , وتنزلق كفاي دون أن أعي _ والساعة تدق _ فوق فخدي , لم يكن ثمة في البيت كله مرآة كبيرة واحدة لأري جسدي فيها مرة واحدة . كنت أري وجهي فقط , وحين أحرك المرآة فتمر صورة جسدي وبطني وفخدي تبدو لي قطعها غير موضولة ببعضها لجسد فتاة مقطعة تشيعها دقات مبحوحة , قاطعة وساخرة , تدق في الجدار بلا رحمة , كنت أول من لمستني فبدوت في تلك اللحظة قريبا حتي لكأنك عشت كل عمرك معي في ثياب واحدة . تحت تلك الدقات الرهيبة للعكاز الذي فقط إتجاهة , وبين أصابعك , يديك , شفتيك , وتحت عينيك , خلعت خمساً وثلاين سنة من حياتي سنة سنة وقطعة قطعة . هل سأراك دائما كاللص , أسرق النظر إليك وراء المنعطفات ؟ "" لنتزوج إذن......."" أخوك حامد سيطلب مهرا على عشرين جملاً . ""إسأله"" هذا الصغير لا يطيق سماع صوتي , أنا أعرفه يفضل أن يقتلك على أن يراك مع أي رجل , فكيف إذا كان زكريا هو ذلك الرجل ؟ " لا تريد أن تتزوجني إذن " أريد ولكن لماذا لا تريدين أن أراك.؟ .
لقد أعطيتك من وحشيتي كل ما املك , وهو يضرب دون أن يعي بعيدا عن طريقه . ولكن شيئا واحدا لا أستطيع اعطاءه : الوقت . كان يتسرب من بين خطواته , ليس ذلك فقط كان ضده لم يكن في سباق معه ولكن في سباق مع خسارته . ومن تلك الوحشية التي لم يعد يغرف من أين تعمل داخل جسده استمد شعوراً بضرورة التوقف , فوقف, كان الافق أمامه يتوهج . ثمة أنوار وطريق وأصوات بعيدة _ لو انه يعرف لحسب انه استبق الوقت ولكنه لا يعرف . وقف وأخذ يفكر , كانت حركته قد اعطته حرارة في وجه الريح الباردة القادمة من السماء في كل الأتجاهات . وفجأة بصق .ليس يهم , فأنا لا اتعامل مع الاحساسات التي تعصف في أعماقه . اتعامل مع الاتجاهات فقط . وهو هنا في اتجاه خاطئ . ضده , ورغم ذلك فيبدو انه ما زال مغيظاً من امر لا علاقة لي به , ولا علاقه له بوقفته تلك نصف ساعة بعيداً عن الطريق الصحيح . وقد حدث ما كنت أتوقعه تماماً , فحين حاول ان يمر بعيداً بعض الشيء عن الاضواء اخطأ الاتجاه مرة اخرى , واتصب بشكل يكاد يكون مستقيما نحو الجنوب متخلياً نهائياً عن التفكير , معتمداً على حواسه جميعاً دفعة واحدة مغلفة بشيء من الرعب , ولكنه رعب مستثار ايضاً مزيج من المشاعر التي تملأ قبضتي مغامر شجاع وهما تدقان بوابة مجهولة .

كنت أرتجف خائفة ومستثارة في وقت واحد حين رأيته أمام الباب , كان حامد قد غادر منذ خمس دقائق فقط , وكان زكريا وقف أمام الباب واثقاً من نفسه وسأل " هل هو هنا ؟" و دون ان ينتظر وضع قدميه في الباب ودخلت واضعاً يدك على كتفي فأحسست بها ثقيلة تكبلني :" أريد أن أحدثه بشأن زواجنا " وفي دوامة من النشوة لست أدري كيف قلت :"" انه ليس هنا "" ." هل سيتأخر ؟.اعني هل استطيع انتظاره .؟" لا أعرف , لا أعتقد لقد ذهب ليأتي بالاعاشة , أنت تعرف أنه أول الشهر . وتحرك إلى الداخل ثم استدار فجأة :"خائفة مني ؟" كلا , لماذا..؟ تقدمت فوضعت شفتيك حارتين قاسيتن على عنقي وسقطنا معاً فوق الكرسي الطويل الذي كان سريري وسمعت صوتك في ثيابي :" إذن سيتأخر " وأحسست كفك فوق صدري تعتصر :" إذن سيتأخر , كنت ماراً من هناك بالمصادفة " ثم التصق جسدك كله بي والتهبت :" كنت ماراً بالصدفة قرب المركز ورأيت أزدحاماً لا يصدق . صحيح أنه أول الشهر " ولست أدري كيف أحسست بيديك الخشنتين على ظهري العري :" إذن سيتأخر" سقطعت الكلمة في أذني وطافت هناك بلا معني فلم يعد يهمني , بعد , أن يتأخر أو لا يتأخر , ثم لبست ملاسبك : " الأفضل أن أذهب ". وكان انهيار صامت يجتاح بدني فيحطمه من الداخل , وحين صفق الباب فقط سمعت الساعة تدق ثماني دقات كأنها تقرع الباب مره أخرى. لو كانت أمي هنا فقط , يا زكريا لو كانت أمي هنا فقط . ولكن ليس غيرك , وحامد سيذبحني لو عرف , وأعتقد أنني حامل , وأبتسمت ووضعت يدك على كتفي وانت تنظر إلى بطني وكأنك تري شيئ مام ,****غير واضحة بالكتاب*** وينظر إلى العالم دون إذن بعينيه المجهولتين الصغيرتين , ثم قلت ونحن بنمعن في أزقة صغيره " أنت أرض خصبة أيتها الشيطانة أرض خصبة ,أقول لك "
أرض خصبة مزروعه بالوهم والمجهول تتكسر كل انصال الفولاذ في العالم اذا مرت فوق صدرك الاصفر العاري , صدرك الاجرد الممتد الى أبدي والى آبادهم , والسابح بجلال في بحر من العتمة , كل انصال الفولاذ في العالم ليس بمقدورها ان تحصد من فوقك عرقاً واحداً . ولكنها تنكسر , واحداً وراء الآخر , امام حصادك الصلب النامي أكثر فأكثر كلما خطا الرجل الى اعماقك خطوة وراء الاخري , حتي ليتحول هو ذاته الى عرق مجهول مشرش يستقي منك انتصابه وخطواته . وليس بالوسع أن يحصد . لا تقل لي ذلك حتي لو فكرت به فأنا خائفة منه إلى درجة لا أجرؤ فيها على القضاء عليه , عاري . ولكنه يا زكريا , غاري الوحيد في خمس وثلاثين سنة طاهرة ومخزونة .
وهاى هي تدق عشر دقات. تدق تدق... كأن العكاز ينتزع نفسه بائساً وهوا يدق خطواته الأبديه المفردة في نعش صغير مغلق بإحكام _ أربع ساعات يسيرها دون لخظة توقف وأنت تتركني معه أتعقب خطواته على الجدار ملقي إلى جانبي تتنفس نومك , تري كم بقي له , هل تستطيع ان تعرف يا زكريا....

-
لم تنامي بعد ؟

كلا , ولكن قل لي يا زكريا كم يحتاج المرء إلى قطع المسافة مشياً من غزة إلى الأردن ؟

-
عشر مرات قلت لك

-
لا , لم تقل لي.

-
إثنتا عشرة ساعة

وانقلب على جنبه لحظة ثم رفع نفسه على مرفقيه ومضت الساعة تدق .. وأكمل:

-
إذا كان يعرف الطريق جيداً

واقترب , وأخذت عيناه تبحاث في العتمة عن وجهي :
_...
وإذا لم يصادف دورية في الساعة الأولي .
جلس الآن تماماً ومرر أصابعه في شعره , ونظر إلى ساعته ثم عاد ونظر إلى :
_
كم الساعة الآن ؟
_
دقت العاشرة .
_
وأنت تفكرين به ؟
_
نعم .
_
لقد حاولتُ جهدي ان أمنعه على طريقتي الخاصة , أنت لست غاضبة مني ؟
_
كـلا .
إذن حاولي أن تنامي .
_
انني ما زلت أحاول ذلك منذ ساعتين على الأقل .

وانزلق , مرة أخرى , في السرير ودفن وجهه في الوسادة :
_
على أي حال لن يفيده أن تمضي الليل تفكرين به , أفضل لك أن تقتلي الوقت نائمة .

_
لا أستطيع .


وأنقلب إلى الجانب الآخر وصمت , فبدت الغرفة مهجورة من جديد , يجول فيها ذلك الصوت الرتيب لدقات لا تتوقف , تحوم حول أذني , وتصدم رأسي من جوانبه كلها ثم استدار ومد يده إلى الطاولة , فخشخشت علبة الثقاب وأشغل لفافته فأضاء وجهه المربع الخشن , والتمعت عيناه الصغيرتان نصف المغمضتين في حفرتين مظلمتين , ورفع جسده متكئاً على الوسادة , وامتص لفافته فتوهجت نقطة ضوء تسبح في العتمة ثم خطت فوقها دقات العكاز فبهتت من جديد.

_
سنغير قليلا في أثاث البيت . على قدر ما يسمح لنا الجيب , أعتقد ان السريرين لا بأس بهما , ولكن سنحاول استبدال مقاعد الجلوس في الغرفة الأخرى .
_
يجب أن نفكر بالصبي .
_
أنت مجنونة , صدقيني ! تفتكين بشبابك من أجله , وغداً ستلعنينه وتلعنين أباه والساعة التي لم تستمعي فيها إلى النصيحة , ستتحولين إلى امرأة مترهلة ببطنِِ ٍ منقوش كأنه مصاب بالجدري , أنا أعرف , وقد رأيت ذلك بعيني , وطوال عام كامل لن تكوني امرآة , مجرد زجاجة حليب .

واقترب . واضعاً لفافته بين شفتيه , ومرر كفه فوق صدري وبطني . وتوقف هناك لحظة :

_
لك جسد هائل لا تدركين جاله , وغداً حين تبيضين بيضتك الكبيرة ستنقلبين إلى جبل صغير من اللحم وتفقدين كل شيء عدا قطعة الصراخ تلك التي ستقلب حياتك إلى الجحيم .

وفجأة جاءت . وقد كنت أحسب أنني لن أفكر بها , ولكنها جاءت مع صوته حاملة أطفالها , و وقفت هناك , على قدمي السرير , فيما كانت كفه الثقيلة الدافئة تضغط برفق فوق أحشائي . حتي أنني لم أسأله عن اسمها !

_
لم تقل لي ما اسمها.
وسحب يده فجأه وامتص لفافته من جديد . وفي الصمت المفتوح على وسعه , أخذ العكاز يقرع خطوته المفردة بإلحاح متسارع :
كنت أعرف أنك ستسألين هذا السؤال ذات يوم . لا مانع عندي طبعاً , ولكن الآن ؟ ما الذي جعلها تمر في رأسك ؟
_
يدك , يدك وهي تمر فوق بدني ..... هكذا تفعل معها أيضاً ؟؟؟...
_
لست أدري . ولكن استمعي إلى هذه النصيحة من أجل راحتك فقط : حاولي أن لا تفكري بها كثيراً.
_
ماذا قالت لك ؟
_
لم تقل شيئاً , كانت تعيط طوال الوقت , فلم تجد وقتاً للكلام .

وجر نفسه أكثر نحوي وأحرقني لهاثه , فاشتغلت وعرفت أن ذلك سيحدث ولم أستطع مقاومته , وانزلق ثوبي بين اصابعه فتدفق جسدي , وأخدت التعمة تلهث حولي بفحيح مستثاؤ , وفاحت روائح الرجال دفعة واحدة فيما أخذت أهتز بلا هوادة صعوداً ونزولاً , وانا أنسحق بين الأكتاف , أقذف وأدفع وأسحب وأكوم , وأهمل , ثم أجر وأعتصر وأبلل بالماء في مزيج راعب من البرد والقيظ في آن واحد , حتي إذا ما طوفت فوق دوامة من الغيبوبة , أخذ حامد يهزني بكلتا راحتيه معتصراً كتفي بين كفيه الصغيرتين المتشنجتين :
"
مريم هل أنتي مريضة .؟؟" كلا ولكن أين أمك ؟ " تُركت على الشاطئ وستلحق بنا , خالتك هنا معنا ".
كان صغيراً وشجاعاً بصورة لا تصدق , وقد ظل ينظر بعينيه الحادتين إلى كل الرجال نظرة الند , وهو ملتصق في كأنه درع صغير من الفولاذ يرصد سن الرمح . و وراء الشاطئ الأسود كانت يافا تحترق تحت شهب مذنبة من الضجيج الملتهب المتساقط في كل مكان . ونحن نطوف فوق موج داكن من الصراخ والدعاء .
"
ولماذا تركتَ أمك على الشاطئ ؟" لم أتركها , ولكن الزورق امتلأ وستاتي في زورق آخر . إن الرجال يعتون بها هناك , وكان لا بد لي من ان آتي معك , وخالتي أيضاً . كان عمره عشر سنوات فقط وكنت في العشرين وبدا أنه أكتشف كل شيء في لحظة مجنونة واحدة . وقد صرف الليل كله يحدق إلي بعيني نسر صغير , ونحن نطوف في فراغ أسود بلا نهاية والمجاديف تدق سطح الموج . تدق . تدق . ويافا تغطس كالشعلة في مياه الأفق البعيد . وتنطفئ في عيوننا نقطة نقطة .......

 

لقد حرصتُ عليك حرصي على حياتي ذاتها ايتها البقرة , أمضيت كل أيامي وانا غارق في خدمتك الصغيره ليلاً نهاراً بلا كلل . وكمت أريدك امرأة شريفة تتزوج ذات يوم رجلاً شريفاً . ولكنك فتحت فخديك لأول رجل . لأول نتن . وجئت تحملينه في احشائك ,دون ان تكترثي لحظة واحدة بي . دون ان تكترثي حتى به .كنت ايتها البقرة كنت , كنت . ولكنك ستسقطين في سرواله معها , سيتقاسمكن جميعاً وستموتين هناك , وسأقول لأمك انك مت , وأنني دفنتك في سروال رجل نتن , مع امرأة اخرى لديها منه خمسة أطفال , وقد تلد طفلاً سادساً في المساء . فكيف سنعيش معاً ؟ ستقيم معي هنا وتتركها؟ حتى أنني لم أسألك هذا السؤال ! قد يمضي كله دون أن تأتي , فتكون إذن في فراشها هي . وفي طريق عودتك من دارها إلى مدرستك تقرع بابي , أو لا تقرعه , كلما ذهبت إليها ستمر من امام الباب . يا إلهي . لم أفكر قط أن بيتي يقع في منتصف الطريق بين بيتها ومدرستك . وقد أراك تمر أمام الباب وتمضي إليها دون أت تلتفت . هل تشدها دائما من شعها وأنتما تتسلقان هذه اللذة الأليمة ؟ " قلت لك كفٌي عن التفكير بها وفكري بي أنا معك " . ورفعني بين ذراعيه الثقيلتين , فصارت الساعة أمامي , وكان عقرباها غائبين في العتمة إلا انهما ظلا يدقان . وغصنا معاً بما يشبه الإغماء . من أين يستطيع حامد أن يفهم ؟ لقد كان دائما رجلاَ رائعاً ولكنه لم يكن أبداً إلا أخي . ومرور الزمن لم يكن يعني لديه شيئاً فيما كان بالنسبة لي موتاً يعلن عن نفسه كل يوم مرتين على الأقل . بالنسبة له كنت أتحول كل يوم إلى مجرد أم . وكان يتحول كل يوم بالنسبة لي إلي رجل محرم . ولم يدرك قد طوال عمره لحظة ارتطام واحدة مع رجل حقيقي ستودي بنا معاً , وأيضاً بعالمنا الجميل الصغير التافه الذي أجبرنا أنفسنا على اختياره .عالم تافه غير مستعد لقبول عانس أخرى , فما الذي كنت تتوقعه إذن ؟. انترع نفسه واستلقي عارياً وأخد يحدق الى السقف وهو يلهث :" لم تكوني هنا , انا أعرف ! كنت مثل قطعة حطب , ولكن ذلك لن يستمر طويلا ً , أنا الذي أعرف كيف أطوّعك "
وصمت قليلا ولهث بصفير مسموع :" كانت فتحية مثلك في البدء " إسمها إذن فتحية ؟ " أف ! لم تفهمي من كل ما قلته إلا فتحية ... فتحية ماذا تريدين أن أفعل ؟ أطلقها ؟ أنت لا تريدين ذلك , أنت اكثر شباباً منها وأكثر جمالاً فلماذا تخافين منها ؟ أنتظري قليلا ً لتسمعي رأيها ! " .

قمت فأخذ السرير يئزّ , ومضيتُ إلى الغرفه الأخرى . كانت زميلة ٌ صغيرة في ثانوية الإنكليز بيافا لها عينان تغمزان دائما كأنما حين تتحدث , تتحدث دائما عن الحب , وكان فمها الصغير يُدعك بانتظام , فتبدو شفتاها ثقيلتين مضرجتين . وأثناء الدروس كانت تعلكهما بأسنانها لتحافظ على لونهما المتوقد , كانت صغيرة , وكان جسدها المشدود داخل الثوب الكحلي يبدو كجسد قطة مهتاجة . وكانت دائما تكتب رسائل وتتلقي رسائل , وتتحدث عن رجل تسميه دائما "هو" وتغمز بعينها . تري أين انتهت الأيام بك يا فتحية ؟ كان أبوها يقول دائما انه لن يغادر يافا حتى لو انقلبت إلى كهوف حجرية . وكان إذا تحدث يظل يقول أهلا ً وسهلا ً كأنه صاحب ُ مضافة بدوية . وحين زرناها مرة أثناء الحوادث دخل الي الغرفه وتناول كتاباً والتفت فجأة إلىّ " ماذا قرر أبوك أن يفعل يا مريم ؟"
_
لست أدري , ولكنه ينوي أن يبقي هكذا يقول .
_
أهلا ً وسهلا ً وأنا أنوي أن أبقي .
وخطا إلى الخارج فيما أخذت فتحية تغمز وتبتسم , وهي تنظر إلى قفاه المتهدل , إلاَّ أنه عاد والتفت إلينا :
_
ولماذا أغادر .؟ إذا جاءت كارثة فأهلا ً وسهلا ً , لن يستطيع القدر أن يمسخ أكثر من القرد .
وحين غيبته نهاية الممر , قالت فتحية فجأة :
_
سأزوجك أخي فتحي ذات يوم ..... إنه يبحث عن عروس , ما رأيك ؟
_
قلت لك إنني أنوي إكمال دراستي .
وغمزت وابتسمت , وعلكت شفتيها بأسنانها :
قولي هذا الكلام لغيري .
وكانت أمي تتحدث باللهجة ذاتها : إذا خطبك فتحي فلن أقول : "طيب" سأقول كما يقول أبوه :"أهلا ً وسهلا ً ".
و وقف أبي أمام الباب , كان غاضباً , وكان يرتجف شأنه كلما تحيّر في غضبه , وصاح بصوته العريض المبحوح :" لا تتحدثوا عن الزواج قبل انتهاء القضية " . وكان إذ يلفظ كلمة القضية يبدو الخطر محدقاً وداميا ً . وكانت له طريقته الخاصة في ذلك , فهو يشد على الياء بعنف وينفض نهاية الكلمة نفضا ً وقد أخذ حامد هذه العادة منه , أغلب الظن .

Top