بين يدي الكتاب

 

الحمد لله الذي هدانا لإتباع هذا الدين القويم،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد  (ص) ،الذي بلغنا هذه الشريعة الغراء التي لم تترك أمراً صغيراً كان أم كبيراً في حياة البشر إلا ونظمته بما يليق بعظمة الخالق سبحانه،المنزل لهذه الشريعة التي تصلح لكل زمان ومكان،وبما فيه من السعادة لكل من اتبعه في دنياه ولنصل به إلى بر الأمان في أخراه.

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على هذه الأرض ومن ثم جعله خليفته فيها وسخر له كل ما فيها.وخلافة الإنسان في الأرض،إنما تتحقق بحسن عمارتها وإصلاحها وحمايتها.ومن أجل ذلك منح الله سبحانه وتعالى الإنسان من المؤهلات من عقل وجسد قوي ما يمكنه من أداء هذه المهمة،وأنزل الشريعة تلو الشريعة حتى يتمكن الإنسان من حفظ هذه الضرورات لتستقيم خلافته وفق المعطيات التي وضعها الخالق المصور لهذا الكون.

وهكذا فإن حفظ النفس وسلامتها وصحة الجسد ملحظ هام أعتبره الفقهاء أحد مقاصد الشريعة الغراء والتي نزلت من أجلها.ومن خلال البحث المنصف نجد أن تشريعات الإسلام كلها تولي هذا المقصد "حفظ البدن وصحته" مكانة خاصة،لا بل نجده ركناً أساسياً في معظم هذه التشريعات.ومن هنا نفهم كيف جعل النبي  (ص)  نعمة الصحة والعافية تلي نعمة الإيمان في الأهمية،وذلك فيما رواه الصديق   (ر)  عن النبي  (ص)  قوله:"سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية".

وتتطابق نظرة الإسلام للصحة مع المفهوم الحديث لها.فالصحة في مفهوم الطب الحديث ليست مجرد الخلوّ من العاهات أو الأمراض،بل أن يتمتع الفرد برصيد من القوة في وظائف أعضائه تجعله يتحمل ما قد يتعرض له من مسببات كثير من الأمراض وهذا تطابق معجز حقاً مع ما قال به نبي الرحمة  (ص) :"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

والإسلام يهتم بصحة الفرد قبل أن يتخلق إذ يطلب انتفاء الشريك (الزوج أو الزوجة) الصالح لإنتاج ذرية سليمة،مصداق ذلك ما يرويه ابن عباس   (ر)  عن النبي  (ص)  قوله:"تخيروا لنطفكم" ثم إنه حث على الرضاعة الطبيعية وإطالتها قدر الإمكان ليحصل الوليد على عناصر المناعة اللازمة والتي لا تعطيها الرضاعة الصناعية "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين". ودعا إلى تنشئة بدنية قوية وفيه إلى رياضات هي أسُّ هذه التربية مثل السباحة والرماية وركوب الخيل. وحتى ساعات اللهو عند المسلم موجهة لخيره وتنمية لقوته. يقول  (ص)  :"كل ما يلهو به المسلم باطل إلا رميه بقوس وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" والطب الإسلامي إن قرر بعض الأمور العلاجية كنوع من التوجيه للأمة لأمور تنفعها بوحي من السماء،كما في قوله تعالى عن العسل "فيه شفاء للناس" وقول النبي  (ص)  :"عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء".فهو –أي الطب الإسلامي- طب وقائي يعمل على حماية صحة الفرد ويحافظ على صحة المجتمع كله.قال تعالى :"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".

وهو أول نظام صحي عالمي أقرَّ الحجر الصحي عند حدوث الأوبئة كالطاعون والكوليرا ووضع له قواعد راسخة أقرها الطب الحديث.فقد روى الشيخان عن النبي  (ص)  قوله:"إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به من قبلكم فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا عليه".والذي يعرف أهمية الحجر الصحي في حياة الأمم يعرف عظمة ما جاء به النظام الصحي الإسلامي منذ قرون.

والإسلام دعا إلى النظافة إذ هي قمة الحضارة وجعل الطهارة شرط لصحة أهم عباداته من صلاة وطواف فقال النبي  (ص)  :"الطهور شطر الإيمان". واهتم بنظافة الفم الذي هو عضو التواصل،كما هو مدخل معظم الجراثيم إلى البدن وربط بوضوح بين نظافة الفم ورضا الرحمن فقال  (ص)  :"السواك مطهرة الفم مرضاة للرب".

وآداب الطعام مفخرة من مفاخر الهدي النبوي العظيم، حرص من خلالها على أن يتناول المسلم طعاماً نظيفاً خالياً من أي تلوث.فأمر بالأكل باليد اليمنى،وأمر بتغسيل اليدين قبل الطعام وبعده،وأمر بعدم الإسراف في الطعام وعدم إدخال الطعام على الطعام،وجعل سبحانه من أهم أهداف البعثة المحمدية أن يحل لأمته الطيب النافع وتحريم الخبيث الضار.قال تعالى معدداً أهداف بعثة محمد  (ص)  :"ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث".

هذا وإن تحريم الخمر والتدخين والمخدرات يمكن اعتباره أهم منجزات شريعتنا الغراء في مجال الطب الوقائي،إذ أن إلتزام المجتمع المسلم باجتناب هذه الخبائث يقيه من الوقوع في براثن العديد من الأمراض المهلكة وحماية الأجنة من التشوهات ووقاية الأفراد من الحوادث.

ومن أجل بناء أسرة متينة وحمايتها صحياً واجتماعياً حرم الإسلام الزنا واللواط وغيرها من الفواحش التي هي المصدر الرئيسي لانتشار الأمراض الزهرية وعلى رأسها،الإيدز (غول القرن العشرين)،والتي أنبأنا عنا رسول الله  (ص)  محذراً من غوائلها حيث قال :"وما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم".

ومن أجل صحة المجتمع وحماية البيئة،ونظراً لكون البراز أكبر مصدر لتلوثها الجرثومي فقد جاء حديث رسول الله  (ص)  يأمر المسلمين بالالتزام بأهم إجراء وقائي لحفظ صحة المجتمع المسلم ومنع سراية الأمراض فيه وهو قوله  (ص)  :"اتقوا الملاعن الثلاث:البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل".

ووضع الإسلام القواعد الأساسية للوقاية من الحوادث والتي كثيراً ما تؤدي إلى إزهاق الأرواح،ضمن أوامر محددة وواضحة من أجل سلامة الفرد في المجتمع المسلم فقد "نهى رسول الله  (ص)  عن النوم على سطح غير محجور عليه".كما نهى الأعرابي الذي جاء يسأله أن يترك ناقته هكذا دون عقال توكلاً على الله فقال  (ص)  :"اعقلها وتوكل". ونهى رسول الله أن يترك أحد النار مشتعلة وينام عنها قائلاً :"لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" متفق عليه.

وبعد هذا فقد نظم الإسلام مهنة الطب ووضع قواعد الممارسة الطبية التي يجب أن يلتزم بها كل من الطبيب ومريضه،كل هذا من أجل صلاح البدن وسلامة الفرد.وهكذا فقد اعتبر الشارع مهنة الطب من فروض الكفاية التي إن لم يقم بها أحد من أهل بلد مسلم أثم أهل البلد كلهم.وخلص هذه المهنة المقدسة مما خالطها من السحر والخرافة والكهانة فقد قال  (ص)  :"تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء إلا الهرم".

ومنع الإسلام غير الأطباء من ممارسة أي عمل طبي محملاً إياهم أي نتائج تصدر عنهم وهذا مصداق قول النبي  (ص)  :"من تطبب ولم يكن معروفاً بالطب فأصاب نفساً فما دونها فهو ----".وكان عليه الصلاة والسلام يأمر أتباعه باختيار من هو [أطب] للحال الذي تناسبه.كما دعا الشارع أهل العلم بالطب للبحث عن أسباب المرض واكتشاف ما يجهلونه من وسائل العلاج إذ هو ص القائل :"ما أنزل الله من داء إلا أنزل له الشفاء،علمه من علمه،وجهله من جهله،فإذا أصاب دواء الداء شفي بإذن الله".

وهكذا يتبين لكل ذي بصيرة أن الطب الإسلامي ممارسة نوعية للطب تنبثق من التفسير الإسلامي لرسالة الإنسان في الأرض والحكمة الإلهية من استخلافه،وتعتمد على نظرة حفظ الضرورات الخمس التي أجمع علماء المسلمين على أنها مقصد هام من مقاصد الشريعة.

وفي دراستنا لمباحث الطب الإسلامي التزمنا المصطلحات الفقهية المعتمدة وأصدرناها في سلسلة ميسرة للقارئ العادي تحت اسم "روائع الطب الإسلامي" وخصصنا الجزء الأول منها [القسم العلاجي] وفيه مباحث حول وجوب التداوي وحكم التداوي بالمحرمات وأدب الطبيب وفقهه في الشرع الإسلامي ثم عددنا حسب الترتيب الهجائي في مفردات الأدوية النبوية والأطعمة التي نوه إليها الشارع معتمداً على النصوص الثابتة الصحيحة وأجمل ما قال فيها الأولون ثم نذكر أبحاث الطب الحديث حول كل مفردة.وختمنا الكتاب بمبحث حول الطب الروحاني.

أما الجزء الثاني من روائع الطب الإسلامي فكان تحت عنوان [العبادات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع] ذكرنا فيه ما فرضه الشرع من عبادات على المسلم من طهارة (الوضوء والغسل والاستنجاء) وصلاة وصيام وحج وزكاة،وفصلنا في حكمها مما ذكره أهل العلم الأجلاء ،ثم انتقلنا إلى ما أثبته أطباء الشرق والغرب من منافع جلية يستفيد منها الفرد المسلم من التزامه بهذه العبادة،ومن ثم ما ينعكس من أمور على المجتمع المسلم كله.

أما الجزء الثالث من روائع الطب الإسلامي فعنوانه [المحرمات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع] فقد فصلنا فيه الأدلة الشرعية على تحريم الخمر والتدخين والمخدرات،ولحم الخنزير والميتة والدم،والزنى والشذوذ الجنسي،ثم انتقلنا في كل فصل إلى الويلات والأمراض المهلكة التي تعاني منها البشرية التي لم تلتزم بأوامر الله في هذه المحرمات.

وبين أيدينا اليوم [الجزء الرابع من روائع الطب الإسلامي] ذكرنا فيه بإسهاب الآداب الإسلامية من هدي نبوي وتوجيه قرآني يلتزم به المسلم في أدائه لأعماله اليومية من طعام وشراب ونوم وقيلولة ولهو ورياضة وغيرها،ومن خصال الفطرة التي فطر الله البشر عليها،وأثر ذلك من أثار صحية إيجابية تبدو جلية في صحة الفرد وما ينعكس بعد ذلك على مجتمعه من قوة وبناء متين.ندرس كل ذلك من خلال خمسة فصول :

الفصل الأول:في آداب الطعام والشراب وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.

الفصل الثاني:في آداب النوم وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.

الفصل الثالث:في خصال الفطرة وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.

الفصل الرابع:في الرياضات المسنونة وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.

الفصل الخامس:التدبير النبوي في ضبط تصرفات الإنسان الانفعالية وأثر ذلك في صحته.

راجياً المولى القدير أن ينفع بكتابنا هذا من يقرأه وأن يدعو لنا أن نتم هذه السلسلة من روائع الطب الإسلامي التي نحن بصددها حتى نخرج الجزء الخامس حول آداب النكاح الإسلامية وأثرها في صحة الفرد والمجتمع والله ولي التوفيق.

 

دمشق العاشر من جمادى الآخرة 1419هـ والموافق تشرين الأول 1998م.

المؤلف محمد نزار الدقر

الهاتف : 00963113339946

Top